غربة وحنين لأحمد شوقي
التعريف بالشاعر:
ولد بالقاهرة في 16 من أكتوبر سنة 1869م، وينحدر من أصول أربعة، عربية، وتركية، ويونانية، وجركسية .. ودرس في مدرسة الحقوق، وبُعث إلى فرنسا لدراسة الحقوق والآداب، ولما عاد صار شاعر الخديوي والقصر.
ولما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م نفي إلى إسبانيا سنة 1915 م لصلته بالخديوي عباس حلمي الثاني الذي عزله الإنجليز؛ لتأييده تركيا ضدهم.. وبعد الحرب عاد إلى مصر سنة 1920 م، فاتصل بالشعب وصار لسان العروبة والإسلام وبويع أميرًا للشعر سنة 1927م. توفى سنة 1932م.
جو النص:
قالها شوقي في منفاه بالأندلس حنيناً الى مصر وتشوقاً لها، وسخطاً على الاستعمار وتذكراً لأمجاد المسلمين بالأندلس، فقد نفي إليها خلال الحرب العالمية الأولى، وهناك شعر بأنه بأنه فقد حريته، وحرم من وطنه يضاف الى ذلك ما للأندلس من مكانة في نفس كل مسلم، وفي نفس شوقي الشاعر المرهف.
وهذه القصيدة من بين قصائد عديدة من شعر شوقي في منفاه عرفت (بأندلسيات شوقي) يعارض بها سينية البحتري في وصف إيوان كسرى، ويقول شوقي عن قصيدة البحتري: "فكنت كلما وقفت بحجر او طفت بأثر تمثلت بأبياتها وأنشدت فيما بيني وبين نفسي".
وعظ البحتري إيوان كسرى ... وشفتني القصور من عبد شمس
العاطفة: سيطرت عاطفة الشوق والحنين والثورة على الاستعمار والسخط والغضب منه.
نوع التجربة: شخصية (ذاتية) تحولت الى عامة.
من أثار شوقي الأدبية: (الشوقيات - اسواق الذهب) - ومسرحيات شعرية (علي بك الكبير - قمبيز - مجنون ليلى - الست هدى) وله مسرحية نثرية هي أميرة الأندلس.
الشرح والتحليل:
الفكرة الأولى: ذكريات وأشواق:
اختلاف النهار والليل ينسي ... اِذكرا لي الصبا وأيام أنسي
وَصِفا لِي ملاوةً من شباب ... صورَت من تصوراتٍ وَمس
عصفت كالصبا اللعوب .... ومرت سنةً حلوةً ولذة خلس
اللغويات:
اختلاف: تعاقب × ثبات، النهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إِلى غروب الشمس، ج أنهر، نهر
الصبا: عهد الصغر × الشيخوخة (صبو)- اذكرا: يخاطب صاحبيه على طريقة الشعراء القدامى
الصبا: ريح رقيقة تأتي من الشرق (صبي) ×الدبور ج: صَبَواتٌ وأصْباءٌ. – سِنة: ج سنات
أنسى: سعادتي × وحشتي - صفا: فعل أمر من "وصف" - صورَت: صيغت وشُكِّلَت
تصَوراتٍ: تخيلات - اللعوب: الرشيقة الحركة ج لعائب - سنة: نعاس مادتها (وسن)
ملاوةً : المِلاوةُ والملاوة والملاوة حيناً وبرهة وفترة ًمن الدهر - مس: جنون والمراد نشاط واندفاع الشباب
- عصفت: اشتدَّ هبوبها والمراد مرت مسرعة × هدأت - الخلس: الأخذ خفيةً واختلاساً × عيانا.
الشرح:
1. يبدأ أمير الشعراء النص بحكمة صادقة مخاطباً صاحبيه على عادة القدماء فيقول لهما: إن تعاقب الأيام يُنْسِى الإنسان الأحداث الماضية والذكريات الجميلة، لذا أرجو منكما (صاحبيه) أن تعيدا على مسامعي ذكريات الصبا وأيام السعادة التي عشتها في مصر.
2. ويطلب منهما أن يعيدا على مسامعه وصف هذه الفترة فترة الشباب الرائعة التي مازالت بخيالاتها وصورها ماثلة أمام عينيه لا تريد أن تفارق خياله.
3. لقد مضت سريعة كأنها النسيم الرقيق العابر، أو كأنها لحظة نوم قصيرة أو لذة خاطفة مختلسة من الزمن.
بستان البلاغة:
في الأبيات السابقة يتضح تأثر شوقي بالقدماء وضح.
- خطابة (الصاحبين المتخيلين) على عادة الشعراء القدماء في قوله "اذكرا - صفا".
- استعمال بعض الألفاظ التراثية مثل "الصبا - ملاوة" مما يدل على تأثر الشاعر بالتراث القديم.
التذوق البلاغي:
اختلاف النهار والليل ينسي ... اِذكرا لي الصبا وأيام أنسي
- [اختلاف]: لفظة دقيقة تدل على التعاقب باستمرار وهي أجمل من [انقضاء] التي تدل على الانتهاء.
- [النهار الليل، ينسى اذكرا]: محسن بديعي/طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.
- [ينسى أنسى]: تصريع يعطى جرساً موسيقياًً في مطلع القصيدة. وجناس ناقص يعطى جرساً موسيقياًً ويحرك الذهن.
- [ينسى]: إيجاز بحذف المفعول به يوحي بأن النسيان عام وشامل.
- [اذكرا]: أسلوب إنشائي / أمر غرضه الالتماس.
- [الصبا وأيام أنسى]: إطناب عن طريق عطف الخاص على العام يثير الذهن ويؤكد المعنى.
- [أيام]: جاءت جمعاً؛ للتعظيم ولتوحي بكثرة الأوقات السعيدة التي قضاها في الوطن.
وَصِفا لِي ملاوةً من شباب ... صورَت من تصوراتٍ وَمس
- [صفا]: أسلوب إنشائي / أمر غرضه الالتماس والتمني.
- [ملاوة]: لفظة تراثية تؤكد سعة اطلاع شوقي ودوره في إحياء بعض الكلمات، وتنكيرها لتعظيم تلك الفترة (الشباب).
- [ملاوة صورت من تصورات ومس]: تشبيه لفترة الشباب في جمالها ونشاطها بالتخيلات والجنون، وسر جماله التوضيح، ويوحي بما في الشباب من نشاط ومرح، واستخدام الماضي [صورت]؛ ليفيد التحقق والثبوت.
- [ملاوة صورت] استعارة مكنية شبه فترة الشباب بشيء مادي يصور. فيها تجسيم.
- [صورت تصورات]: جناس ناقص يعطى جرساً موسيقياًً ويحرك الذهن.
عصفت كالصبا اللعوب .... ومرت سنةً حلوةً ولذة خلس
- [عصفت]: استعارة مكنية فيها تصوير لفترة الشباب بريح تعصف سر جمالها التجسيم وتوحي بالسرعة.
-[الصبا]: من ألفاظ التراث المستعملة في مدرسة الإحياء.
- [عَصَفَتْ كالصَّبَا اللَّعُوبِ] خيال مركب [عصفت كالصبا]: تشبيه لأيام الشباب التي مرت سريعة بالريح الرقيقة العابرة، وسر جماله التوضيح. [الصبا اللعوب]: استعارة مكنية تصور الصبا فتاةً رشيقة، وسر جمالها التشخيص، وتوحي بلطف النسيم وخفته.
- [مرت سِنةً حلوةً ولذة خلس]: تشبيهان لفترة الشباب في قصرها وجمالها مرة بالنعاس الهادئ المريح، ومرة باللذة الخاطفة وسر الجمال التوضيح والتجسيم.
- [سِنةً حلوةً]: استعارة مكنية صور سِنة النوم بفاكهةً حلوةً أو شراباً حلواً، وطعاماً لذيذًا، وسر جمالها التجسيم، وهذا خيال تركيبي أيضاً.
- [لذة خِلس]: استعارة مكنية حيث صور اللذة بكنز يختلس ويجوز اعتبارها كناية عن مرور فترة الشباب دون أن يشعر بها.
- البيت الثالث الصور الخيالية متزاحمة ومتتابعة؛ لبيان مدى جمال هذه الفترة من العمر ألا وهي فترة الشباب. وأسلوبه خبري غرضه الوصف وتقرير الإعجاب، وهو تفصيل لما قبله
س1: أيهما أجمل: (نومة حلوة - سنة حلوة) ولماذا؟
سنة أجمل لأنها تدل على السرعة والمتعة وان الفترة الجميلة (الشباب) مهما طالت فهي قصيرة.
س2: لماذا استخدم الشاعر (اذكرا) مع الصبا، و(صفا) مع الشباب؟
اذكرا تدل على استمرار حبه لهذه الأيام واتت مع الصبا لأنها أكثر فترات العمر نسياناً، فلذلك يحتاج لمن يذكره بها ولو إجمالاً وصفا مع الشباب لأن فترة الشباب لا تنسى فهو يحتاج لمن يصفها ويفصل أحداثها.
تقديم كلمة الصبا على الشباب جيد فذلك يتفق مع الواقع، لأن فترة الصبا تأتي اولاً، ثم تليه فترة الشباب.
الفكرة الثانية: التذكر والحنين لمصر:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها .... أو أسا جرحه الزمان المؤسّي؟
كلما مرت الليالي عليه .... رق والعهد في الليالي تقسي
مستطار إذا البواخر رنت .... أول الليل أو عوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنقس
المفردات:
- سلا: اسألا، مادتها (سأل) " والخطاب لصاحبيه - سلا: نسى وصبر، مادتها (سلو).
- الزمان: أاسمٌ لقليل الوقت وكثيره ج أَزمانِ وأَزْمِنَةٍ وأَزْمُنٍ - أسا: عالج وداوى، اسم الفاعل منها " آسٍ " - رق: لان والمراد زاد حنينه وشوقه إلى وطنه × قسا - جرحه: المراد غربته.
- العهد: المعهود والمعروف - المُؤَسِّي: المعالج - مستطار: أي قلبه: كأنه سيطير من صدره - مذعور ومفزوع.
- تقسى: تذهب الرحمة واللين - البواخر: السفن م باخرة - رنت: أحدثت صوتا ورنينا والمراد صفرت.
- عوت: صاحت والعواء صوت الذئب - نقس: صوت الناقوس. - كلما ثرن: أي كلما تحركت السفن للرحيل.
- جرس: صوت خفي أو جزء أو وقت أو طائفة من الليل ج جروس - شاعهن: ودعهن وشيعهن × استقبلهن.
- راهب: المُتَعَبِّدُ في الصَّوْمعةِ مقيم ج رهبان ورهابنة.
- للسفن فطن: مدرك لتحركات السفن ج فُطُن وفُطْن × غافل.
الشرح:
4. يطلب شوقي من رفيقيه المتخيلين أن يسألا مصر سؤالاً غرضه النفي: هل نسيها قلبه العاشق لها؟! وهل يستطيع الزمان المعالج أن يداوي جراح قلبه التي سببها نفيه بعيداً عن مصر؟
5. ومن المعروف أنه كلما مرت الليالي على الإنسان في الغربة فإنها تجعل القلب قاسيًا وتنسيه أحبابه، إلا أن تتابع الأيام في الغربة يزيده شوقاً وحباً وحنيناً لمصر.
6. وكلما سمع صوت البواخر عند دخولها الميناء أول الليل أو خروجها منه فإن قلبه يخفق ويضطرب. يكاد أن يطير من بين جنبيه يود أن يرحل معها إلى أرض الوطن.
7. ولقد تحول قلب الشاعر إلى قلب راهب في محرابه، ولكنه مدرك لحركات السفن التي تفرغ لمراقبتها؛ فهي الوسيلة التي ستصل به إلى الوطن الغالي.
بستان البلاغة:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها .... أو أسا جرحه الزمان المؤسّي؟
- [سلا مصر]: استعارة مكنية تصور مصر إنساناً يُسْأل، وسر جمالها التشخيص، وتوحي بقوة العلاقة بينه وبين وطنه مصر.
- [سلا مصر]: أسلوب إنشائي / أمر غرضه الالتماس والتمني.
- [وهل سلا القلب عنها؟]: أسلوب إنشائي / استفهام غرضه النفي والاستبعاد.
- [سلا القلب عنها]: استعارة مكنية تصور القلب إنساناً يسلو (ينسى)، وسر جمالها التشخيص
- [سلا سلا]: محسن بديعي / جناس تام يعطى جرساً موسيقياًً ويحرك الذهن.
- [أسا جرحَه الزمانُ المؤسي]: استعارة مكنية تصور الزمان طبيباً يداوي الجراح، وسر جمالها التشخيص، وتوحي بأثر الزمن في طمس الذكريات.
-[جرحَه]: استعارة تصريحية تصوير لآلام الأشواق بالجرح؛ لتوحي بشدة معاناة الشاعر من الغربة المريرة. سر الجمال: التجسيم.
- [جرحه المؤسي]: محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.
- [أسا جرحَه الزمانُ المؤسي]: تقديم المفعول [جرحه] على الفاعل [الزمان] للاهتمام به.
أسباب البيت خبري: لتقديم حبه للوطن، والبيت كله يجري مجرى الحكمة.
س: علل لم يقدم الشاعر شبه الجملة (عليه) على الفاعل (الليالي)؟
لإفادة الشمول والعموم فالمستعمر لم يقصد شوقي فقط، بل يقصد كل المصريين.
كلما مرت الليالي عليه .... رق والعهد في الليالي تقسي
- [مرت عليه الليالي]: استعارة مكنية، تصور الليالي بإنسان يمر فيها تشخيص
- [الليالي تقسى]: استعارة مكنية، تصور الليالي أشخاصًا يدعونه إلى القسوة، وترك الرحمة واللين وسر جمالها التشخيص.
-[كلما]: شرطية تفيد التكرار والاستمرار تكرار رقة قلبه بالحب للوطن وعدم انقطاعه مهما طال البعد.
- [رق تقسى]: محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.
- [العهد في الليالي تقسِّي]: إطناب بالتذييل يثير الذهن ويؤكد المعنى.
البيت الخامس أسلوبه خبري لتقرير حبه للوطن، والبيت كله يجرى مجرى الحكمة.
مستطار إذا البواخر رنت .... أول الليل أو عوت بعد جرس
-[مستطار]: استعارة مكنية، تصور القلب طائرًا مذعورًا من صوت السفن، وسر جمالها التوضيح، وتوحي بشدة الاضطراب. إيجاز بحذف المبتدأ لإثارة الذهن.
-[عوت]: استعارة مكنية تصور البواخر ذئابا تعوي، وسر جمالها توضيح الفكرة برسم صورة لها، وتوحي بشدة الفزع والرعب من صفير البواخر؛ لأنها لا تحمله معها إلى مصر.
البيت السادس أسلوبه خبري: للتقرير ولإظهار الأسى والحسر
راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنقس
- [راهب في الضلوع]: تشبيه للقلب في عزلته داخل الصدر براهب في معبده، وسر جمالها التشخيص وتوحي بانقطاع الشاعر عما حوله.
-[راهب]: إيجاز بحذف المبتدأ فالتقدير " قلبي راهب " لإثارة الذهن.
- [للسفن فطن]: استعارة مكنية تصور القلب إنسانا ذكياً يدرك ما حوله، وسر جمالها التشخيص، وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالسفن، ومتابعة حركتها في القدوم والذهاب.
-[ثرن]: استعارة مكنية تصور السفن في حركتها غباراً يثور وسر جمالها التوضيح، وتوحي بالجو النفسي الكئيب. وقد عاب النقاد عليه هذه الصورة لأن اللفظ يتعلق بالغبار وليس السفن التي في البحار. ويمكن الرد على ذلك أنه يقصد الثورة الداخلية في أعماق نفسه.
- [شاعهن بنقس]: استعارة مكنية تصور القلب إنسانًا يودع السفن وفيها تشخيص.
-[نقس]: استعارة تصريحية، حيث شبه دقات القلب بصوت الناقوس وفيها توضيح.
البيت السابع أسلوبه خبري لإظهار التعلق بالوطن عن طريق الارتباط بالسفن التي هي أمله في العودة.
الصور الخالية: من جمال التعبير ودقته: هذا الترتيب الملائم بين " رنت " و" عوت " فقد عبر ب " رنت " عن صوت البواخر القادمة وهي تدخل الميناء أول الليل، مما يبعث الأمل في أن تأخذه معها، ثم بالفعل " عوت " عند رحيل البواخر من الميناء والعواء مخيف مفزع؛ لأنه يبعث الوحشة ويقطع الأمل في العودة إلى الوطن، وهذا ملائم للحالة النفسية للشاعر.
[الصورة الخيالية في الأبيات من الرابع إلى السابع]: صورة ممتدة، فالمشبه واحد وهو القلب، والمشبه به متعدد فهو إنسان يسلو ويرق وطائر مذعور ثم إنسان راهب ثم إنسان مدرك ثم إنسان يودع.
الفكرة الثالثة (حزن للبعد عن الوطن ومناجاة للسفينة):
يا ابنة اليم ما ابوك بخيل .... ماله مولعاً بمنع وحبس؟
أحرام على بلابله الدو ...ح حلال للطير من كل جنس؟
كل دار أحق بالأهل إلا ... في خبيث من المذاهب رجس
نفسي مرجل وقلبي شراع ... بهما في الدموع سيرى وأرسي
واجعلي وجهك الفنار ومجراك ... يد الثغر بين (رمل) ومكس
المفردات:
- اليم: البحر وابنة اليم السفينة ج يموم - أبوك: أي البحر - بخيل: ضد الكريم ج بخلاء.
- ماله: عجباً له - مولعاً: مغرماً، متعلقاً - حلال: مباح.
- رجس: القَذَرُ النجس ج أرجاس - مرجل: قدر ج مراجل - شراع: قلع ج أشرعة، شُرُع.
- منع وحبس: المنع: أن تحول بين الإنسان وما يريده والحبس: الإمساك. يريد منعه(حرمانه) من السفر لمصر وحبسه في إسبانيا. - الدوح: الشجر م دوحة، وهي الشجرة العظيمة ويريد الوطن
- خبيث: فاسد × طيب ج خُبَثاء، وخِبَاثٌ، وخَبَثَة - المذاهب: يقصد مذاهب المستعمرين.
- سيرى: انطلقي " يخاطب السفينة " - وجهك: اتجاهك وقصدك - أرسى: قفي واستقري من (رسو).
- الفنار: المنار " يريد منار الإسكندرية " - يد الثغر: موضع المَخافة من فُروج البُلدان والمراد شاطئ الإسكندرية.
- الرمل والمكس: من أحياء الإسكندرية. - جمع نفسي: خروج الريح من الأَنف والفم، والجمع أَنْفاس.
الشرح:
8. يخاطب شوقي السفينة مستدراً عطفها قائلاً لها: إن أباك البحر مشهور عنه الكرم، فَلِمَ يبخل علىّ ويبقيني حبيساً في إسبانيا ويمنعني من العودة إلى الوطن؟
9. ثم يستنكر قسوة الاستعمار الذي يحِّرم الأوطان على أبنائها المخلصين وتباح للغرباء من كل جنس ليستمتعوا بخيراته، تماماً كما يباح الدوح والشجر لكل أنواع الطيور الغريبة، ويحِّرم على بلابله التي تعيش فيه.
10. ثم يصل بنا الشاعر إلى حكمة مفادها: " أن أهل الدار أحق بها "، وكل وطن أحق بأبنائه، ولا ينكر هذا الحق إلا أصحاب الآراء الفاسدة المستعمرون الذين استحلوا ديار وخيرات أوطان المستضعفين وقاموا بنفي من يعارضهم من أهلها.
11، 12. يستعطف الشاعر السفينة (رمز العودة) أن تحمله إلى مصر، ويتعهد لها بأن يقدم لها كل متطلبات الرحلة؛ فأنفاسه الملتهبة شوقاً وقودها، وقلبه الخافق بحب الوطن شراعها، ودموعه الغزيرة الملتاعة بحر تسير فيه وحين تبحرين فولّي وجهك شطر (تجاه) الإسكندرية، وأرسي بين الرمل والمكس؛ حيث كنت أعيش سعيدًا في وطني.
لاحظ: حرص الشاعر علي ذكر (الفنار – رمل – مكس – الثغر) لأن هذه الأماكن مرتبطة بذكرياته حيث كان يقضى شهور الصيف هناك تنزها على هذا الشاطئ في وطنه الحبيب.
بستان البلاغة:
يا ابنة اليم ما ابوك بخيل .... ماله مولعاً بمنع وحبس؟
- [يا ابنة اليم]: أسلوب إنشائي / نداء غرضه: التمني والاستعطاف، في النداء استعارة مكنية حيث شبه السفينة بإنسان يُنَادى عليه، وسر جمالها التشخيص.
- [ابنة اليم]: كناية عن موصوف وهي السفينة، وسر جمالها الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل.
- [ما أبوك بخيل]: استعارة مكنية حيث شبه البحر بإنسان كريم؛ ليستدر عطفه ويسمح له بالسفر والعودة إلى الوطن فيها تشخيص.
-[أبوك]: كناية عن موصوف وهو البحر.
- [ماله مولعاً بمنع وحبس؟]: أسلوب إنشائي / استفهام غرضه: التعجب.
- [منع وحبس]: نكرتان للتهويل.
يرى بعض النقاد أن (حبس) مجلوبة للقافية لأنها بمعنى (منع)، وهم مخطئون في ذلك لأن عطف حبس على منع أفاد التوكيد والتنويع، فالمنع هو الحرمان من الحق، فالشاعر ممنوع من حقه في الإقامة بالوطن، ومحبوس في مكان بعيد حبسا معنوياً، لا يستطيع الخروج منه إلا بإذن المستعمر كما أن الحبس نتيجة للمنع.
أحرام على بلابله الدو ...ح حلال للطير من كل جنس؟
-[أحرام؟]: أسلوب إنشائي / استفهام للاستنكار.
- [حرام وحلال]: محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.
-[بلابله]: استعارة تصريحية، حيث شبه المصريين بالبلابل، وحذف المشبه وصرح بالمشبه به وفيها توضيح.
-[الدوح]: استعارة تصريحية، حيث شبه الوطن بالدوح، وحذف المشبه وصرح بالمشبه به وفيها توضيح.
-[الطير]: استعارة تصريحية حيث شبه المستعمرين بالطير، وحذف المشبه وصرح بالمشبه به وفيها توضيح.
- ويجوز أن يكون البيت التاسع كله استعارة تمثيلية أو تشبيها ضمنيا، فقد شبه الصورة المؤلمة لوطنه، وقد حرم أحراره من الإقامة فيه، وأبيح للأجانب المستعمرين بصورة الدوح تطرد طيوره ويباح للطيور الغريبة، وهي توحي بالمرارة التي يحسها الشاعر واستنكار السياسة الاستعمارية الغاشمة.
- البيت التاسع كله يجرى مجرى المثل والحكمة.
كل دار أحق بالأهل إلا ... في خبيث من المذاهب رجس
- [خبيث من المذاهب رجس]: استعارة مكنية تصور مذاهب الاستعمار مادةً قبيحةً نجسةً، وسر جمالها التجسيم.
- [دار]: نكرة للعموم. - [خبيث ورجس]: نكرتان للتحقير. - [الأهل]: التعريف للشمول.
- [رجس- خبيث]: ذكر [رجس] بعد [خبيث] لتأكيد وحشية الاستعمار.
البيت العاشر أسلوبه خبري غرضه ذم الاستعمار وهو يجرى مجرى الحكمة.
نفسي مرجل وقلبي شراع ... بهما في الدموع سيرى وأرسي
- [نفسي مرجل]: تشبيه لنفسه الحار بالمرجل الذي يغلى ويمد السفينة بالطاقة الدافعة، وسر جماله التوضيح والتجسيم، ويوحي بشدة الشوق للوطن.
- [قلبي شراع]: تشبيه لقلبه بشراع السفينة الذي تحركه الريح، فيدفع
السفينة. وسر جماله التوضيح.
- [نفسي مرجل قلبي شراع]: محسن بديعي / حسن تقسيم يعطي جرساً موسيقياً تطرب له الأذن.
- [بهما في الدموع سيرى]: استعارة مكنية تصور دموعه الغزيرة بحرًا تسير فيه السفن، وسر جمالها التوضيح، وتوحي بشدة حنينه إلى الوطن، وتقديم الجار والمجرور قصر للتخصيص.
- الخيال في الصور السابقة خيال مبتكر يدل على براعة شوقي.
يرى بعض النقاد أن الخيال في البيت الحادي عشر فيه تناقض في أن الشاعر جعل السفينة بخارية مرةً وشراعيةً مرة أخرى، ويمكن الرد على ذلك التناقض بأنه لا مانع أن يكون للسفينة البخارية شراع أيضا يستخدم حين يتعطل محرك السفينة، كما أن هذا أسلوب أدبي للتعبير العاطفي لا لعرض الحقائق العلمية.
- [سيرى وأرسى]: محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد ويفيد العموم والشمول.
- [سيرى أرسى]: أسلوب إنشائي / أمر للتمني.
واجعلي وجهك الفنار ومجراك ... يد الثغر بين (رمل) ومكس
- [اجعلي]: أسلوب إنشائي / أمر للتمني.
- [اجعلي وجهك]: استعارة مكنية، تصور السفينة إنساناً يخاطب وله وجه وسر جمالها التشخيص.
- [يد الثغر]: استعارة مكنية، تصور الثغر إنساناً له يد، وسر جمالها التشخيص. وتوحي بالترحيب، وحسن الاستقبال.
س: لماذا حرص الشاعر على ذكر (الفنار - رمل - مكس - الثغر)؟
لارتباطها بذكرياته الجميلة في الاسكندرية فقد كان يمضي الصيف هناك متنزهاً على هذا الشاطئ.
الفكرة الرابعة: حب الوطن لا يغيب عن الشاعر:
وطني لو شغلت بالخلط عنه ... نازعتني إليه في الخلط نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
المفردات:
- شغلت: تلهيت - الخلد: دوام البقاء في دار لا يخرج منها. اسم من أَسماءِ الجنة. والخَلَد، بالتحريك: البال والقلب والنفس، وجمعه أَخلاد. - نازعتني: غالبتني والمراد اشتاقت إليه × نهتني
- هفا بالفؤاد: حركه وذهب به ومال (هفو) - الفؤاد: القلب ج أفئدة.
- ظمأ: عطش والمراد شوق × ارتواء - السلسبيل :(عين ماء في الجنة) ج سلاسب و سلاسيب
- السواد من عين شمس: السواد: القرى المحيطة بالمدينة والمراد هنا ضواحي عين شمس ج أسودة
- شهد الله: علم - جفوني: المراد عيوني - شخصه: ذاته " يقصد الوطن "
- ساعةً: لحظةً - لم يخل: لم يفرغ - حسي: إدراكي.
الشرح:
13. إن حبي لوطني الغالي كبير لا يشغلني عنه شاغل مهما كان عظيماً حتى ولو كان الخلود في الجنة.
14. لذلك فإن قلبي مشتاق لأن يروي ظمأه الشديد إلى مصر وضواحيها الجميلة برؤية أهلها ولقاء الأهل في منطقة عين شمس التي عشت فيها فترة من الزمن.
15. ويعلم الله أن صورة وطني لم تغب عن عيوني لحظة وأن حبه لم يفارق روحي رغم بعدي عنه فصورته أمام عينيّ وفي قلبي على الدوام.
- لاحظ ترابط الأبيات فالبيت الثاني يكمل معنى البيت الأول والبيت الثالث دليل يؤكد شدة شوقه إلى مصر فهو يشهد أن صورتها لم تغب عنه لحظة.
بستان البلاغة:
وطني لو شغلت بالخلط عنه ... نازعتني إليه في الخلط نفسي
- البيت الثالث عشر كله كناية عن شدة حبه لوطنه.
- [لو]: حرف شرط يفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط ويفيد استحالة انشغاله بغير الوطن.
- [شغلت عنه ونازعتني إليه نفسي]: مقابلة تبرز المعنى وتوضحه بالتضاد.
- [وطني]: الإضافة تدل على شدة التعلق بالوطن.
-[الخلد]: كناية عن الجنة، وتكررت مرتين في البيت؛ لبيان ضخامة حب الشاعر لوطنه وتعلقه الشديد به.
-أسلوب البيت الثالث عشر خبري لتقرير حبه لوطنه، وإن كان فيه مبالغة شديدة.
يرى بعض النقاد بأن معنى البيت الأول فاسد؛ لأنه حين يكون الإنسان في جنة الخلد تكون الدنيا قد انتهت، فلا يكون هناك وطن يشتاق إليه، أو لأن ذلك مخالف للدين الذي يجعل جنة الخلد أفضل مكان.
- ويمكن الرد على ذلك النقد بأنها مبالغة مقبولة لأنها في حب الوطن الذي يشبه كثيرًا بالجنة والمبالغة نابعة من خيال شاعر، وقد خففها الشاعر باستعمال (لو) التي هي حرف امتناع الجواب لامتناع الشرط.
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من عين شمس
- [هفا بالفؤاد ظمأ]: استعارة مكنية تصور الفؤاد شخصاً يتحرك ويذهب، وفيها تشخيص.
-[ظمأ]: استعارة تصريحية، فقد شبه الشوق إلى الوطن بالظمأ وحذف المشبه، وصرح بالمشبه به، وسر جمالها التوضيح، وتوحي بشدة الشوق.
-[السواد]: محسن بديعي / تورية فالمعنى القريب للسواد حدقة العين، يساعد على ذلك الفهم كلمة عين (غير مقصود)، والمعنى البعيد المراد [الضواحي] حول عين شمس، وهي تورية متكلفة غامضة، وذلك يقلل من جمالها.
- [عين شمس]: مجاز مرسل عن أهلها علاقته المحلية. وسر الجمال: الإيجاز والدقة في اختيار العلاقة.
- [سلسبيل ظمأ]: محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
- البيت الخامس عشر كله كناية عن شدة حبه لوطنه.
- [شهد الله]: تعبير يوحي بصدقه وإخلاصه في حب الوطن.
-[جفوني]: مجاز مرسل عن " عيوني " علاقته الجزئية، فقد أطلق الجزء وأراد الكل، وسر جماله الإيجاز والدقة في اختيار العلاقة.
-[شخصه]: استعارة مكنية تصور الوطن إنسانًا له ذات وشخصا، وسر جمالها التشخيص.
-[ساعة]: نكرة للتقليل، فالمقصود بها أقل جزء من الوقت.
- وأسلوب البيت خبري غرضه إظهار التعلق بالوطن.
لعلك تلاحظ أن الشاعر قد وظّف الألفاظ في إظهار حبه الشديد لوطنه فهو شديد الحب لوطنه ولذلك عبر بألفاظ ملائمة لتلك العاطفة مثل (وطني) فقد أضافه لياء المتكلم دلالة على ارتباطه به و (الخلد) والمراد الجنة التي يحرص الجميع عليها لكنها لا تصرفه عن وطنه بل تشد نفسه إلى الوطن. وتضحي بالجنة و (هفا بالفؤاد) يدل على حركته في اتجاهه إلى الوطن. و (شهد الله) تعبير يدل على الصدق والله شاهد على ذلك، وتنكير (ساعة) للتقليل فهو لا ينسى وطنه لحظة. (ولم يخل حسي) تعبير يدل على شدة إحساسه بحب الوطن. وهذا يدل على قوة عاطفة الشاعر نحو الوطن.