من أجل حياة كريمة "نص قرآني"

التمهيد:

يرسم القرآن للناس في هذه الآيات معالم طريق الفضيلة، وما ينبغي أن يتحلوا به في سلوكهم، وأخلاقهم من ارتفاع عن الدنايا، والنقائص، فلا يكاد يكون هناك جانب من جوانب الحياة الاجتماعية إلا وضع فيه الإسلام من السنن، والقوانين ما يكفل للناس حياة كريمة، مستقيمة قوامها الحق، والعدالة، والنص القرآني يبرز لنا بعض هذه السنن، والقوانين الاجتماعية: الفردية والجماعية.

النص القرآني:

(قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151} وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {152}).

شرح الآيات الكريمة:

تتضمن الآيات بيانا للقوانين والسلوكيات التي تضمن للناس الأمن في الدنيا والآخرة. وتبدأ الآيات بخطاب موجه للرسول الكريم -ص - لتعريف الناس هذه القوانين والسلوكيات لتستقيم حياتهم ويفوزوا برضا الله في الدنيا والآخرة.

فتقول الآيات قل يا محمد لهم تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم:

1 - لا تجعلوا لله شريكاً ما بأي نوعٍ كان من أنواع الشرك؛ لأن الشرك يجر إلى كل محرم وهو أكبر الكبائر، ولا مغفرة أو توبة لمشرك.

2 - الإحسان للوالدين غاية الإحسان والبر؛ فإن الله أوصى الأبناء بالآباء، وأوصى الآباء بالأبناء.

3 - عدم قتل الأولاد خوفاً من الفقر فالله هو الذي يكفل لهم الرزق فلا يخافون الفقر والحاجة.

4 - الابتعاد عن الفواحش قولا وفعلا ظاهره وباطنه فلابد من طهارة ونظافة وعفة ليصلح حال الأسرة والمجتمع والناس.

5 - عدم قتل النفس إلا بالحق. ولكن كيف يكون قتل النفس بالحق؟ عن طريق القصاص ويقوم به ولي الأمر.

6 - النهي عن أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وحتى يبلغ أشده أي قوته البدنية والعقلية.

7 - العدل في الكيل والميزان.

8 - وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى.

9 - الوفاء بعهد الله.

وفي هذه الوصايا أساس الدين كله؛ لأنها قوام حياة الضمير بالتوحيد وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة في المعاملات وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات مرتبطة بعهد الله.

من اللمحات الفنية والجمالية:

(قل): أسلوب إنشائي / أمر والأمر للرسول للإلزام والحث، واسترعاء للأسماع، وفيه تعظيم لقدر النبي - ص -.

(تعالوا): أسلوب إنشائي / أمر للنصح والحث والتنبيه يدل على أهمية ما بعده، وكلمة تعالوا توحي بعلو ورفعة وسمو الوصايا ومن التزمها.

(أتل): جواب الطلب، وهو نتيجة له وهو يؤكد أن القول من وحي الله وليس من عند الرسول.

(ما حرم ربكم عليكم): في نسبة التحريم إلى الرب حض وحث للعباد على التدبر والاستجابة.

(ربكم): إضافة (رب) إلى ضمير الخطاب (كم) تفيد التخصيص والاعتزاز والتقدير، فهو وحده له حق الربوبية.

(ألا تشركوا به شيئاً): علاقتها بما قبلها تفصيل لقول الله تعالى: " ما حرم ربكم "، والنهي للنصح والإرشاد، والابتداء بالنهي عن الإشراك؛ لأن إصلاح العقيدة هو مفتاح باب الإصلاح كله في كافة الأمور.

(تشركوا): مضارع يدل على التجدد والاستمرار في وجوب عدم الشرك بالله.

(وبالوالدين إحسانا): تقديم للقصر والتخصيص، و " إحساناً " مفعول مطلق للتأكيد على ضرورة الالتزام بتلك الوصية، وهو نائب عن فعله الأمر " أحسنوا " والتقْدير: وأحْسِنُوا بالوالدين إحْسَاناً، وذكر الله الأمر بالإحسان ولم يذكر النهي عن الإساءة اعتناء بالوالدين وبراً بهما وللسمو بشأنهما.

(وبالوالدين إحسانا): أسلوب إنشائي / أمر غرضه: النصح والإلزام.

(ولا تقتلوا أولادكم): أسلوب إنشائي / نهي غرضه: الوجوب والإلزام.

(ولا تقتلوا أولادكم): كناية عن وأد البنات، سر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(أولادكم): إضافة (أولاد) إلى ضمير الخطاب (كم) تفيد التخصيص والتذكير بالرابطة الإنسانية القوية بين الآباء والأبناء وبالتالي بيان لاحتياج الأبناء للعطف والإشفاق لا القسوة والشدة.

(أولادكم): مجاز مرسل عن البنات، علاقته: الكلية، وسر جمال المجاز الدقة والإيجاز.

(من إملاق): تعليل لسبب القتل، وفيه استعارة مكنية تجسد الفقر بشيء مادي نخافه، وتوحي بشدة الفزع من الفقر.

(نحن نرزقكم وإياهم): قدم رزق الآباء؛ لأن الأبناء مسئولون منهم وإشارة إلى أنه كما رزق الآباء فلم يموتوا جوعاً، كذلك يرزق الأبناء. والتعبير يبرز فضل الله الواسع الذي يغمر به عباده؛ ليطمئن الآباء وبالتالي فعليهم الالتزام بنواهي الخالق.

(نحن نرزقكم وإياهم): إطناب عن طريق الاعتراض للتوكيد، وعلاقتها بما قبلها تعليل للنهي عن القتل.

(نحن نرزقكم): فيها التفات فقد تحول من ضمير الغيبة في (حرم ربكم)، إلى التكلم في (نحن نرزقكم) لجذب الانتباه وتأكيد أن الأمر كله من الخالق والرزق كله بيده.

(نحن نرزقكم): تقديم الضمير (نحن) للتخصيص، وتكراره للتوكيد، والتعبير بضمير الجمع لتعظيم وتشريف الذات الإلهية.

(ولا تقربوا الفواحش): أسلوب إنشائي / نهي غرضه: الوجوب والإلزام والنصح، وهي كناية عن تجنب الآثام والابتعاد عنها، سر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم. ويجوز استعارة مكنية فيها تصوير للفواحش بأشياء مادية ملموسة لا يجب الاقتراب منها لخطورتها أو التفكير فيها، وسر جمال الصورة التجسيم، وهي توحي بضرورة التعقل قبل التفكير في ارتكاب الفاحشة.

(لا تقربوا): تعبير فيه دقة قرآنية وإعجاز بلاغي حيث ينهى عن مجرد الاقتراب من الفواحش أو التفكير فيها للحظات؛ اتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة والنفس كما تعلم أمّارة بالسوء، فالخالق ينهى عن مقدمات الفواحش والوسائل الموصلة إليها؛ مما يدل على شدة كارثية الفواحش وضررها المؤكد

(الفواحش): جمعا للكثرة، والتنوع، وفيها تحقير وتنفير.

(ما ظهر منها وما بطن): تفصيل للإجمال في قول الله تعالي: " الفواحش " للتوضيح.

(ما ظهر): استخدام " ما " لإفادة العموم والشمول.

(ظهر - بطن): محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد، ويفيد العموم والشمول لكل الفواحش التي منها المخبوء المستور ومنها المعلن المنشور.

(ولا تقتلوا النفس): أسلوب إنشائي / نهي غرضه: التحذير والتنفير، وخصه بالنهي؛ لأنه فساد عظيم.

(النفس): جاءت معرفة للعموم والاستغراق، وخص (النفس)؛ لأنها أساس استمرار الحياة.

(التي حرم الله): إيجاز بحذف المفعول به (قتلها)؛ لإثارة الذهن والتنبيه.

(حرم الله): إسناد التحريم إلى لفظ الجلالة (الله) فيه ترهيب وردع وزجر لكل من يفكر في جريمة القتل.

(إلا بالحق): بيان وتوضيح لسبب القتل وهو الحق فقط أي بضوابط شرعية لتطبيق عقوبة القتل، والباء هنا سببية.

(لا تقتلوا - إلا بالحق): طباق س لب يبرز المعنى ويقويه بالتضاد.

(ذلكم وصاكم به): إجمال لما مضى من المحرمات، والتعبير يوحي بالإلزام، وقد جاءت وصاكم لبيان تأصل هذا الأمر في رفق وتلطف.

(لعلكم تعقلون): ختام رائع يؤكد أن ارتكاب هذه المحرمات ينزل صاحبه منزلة من لا يعقل فرجي أن يعقلوا.

(لعلكم تعقلون): استخدام لعل أفاد الرجاء وأن باب الاهتداء مفتوح لمن يستخدم عقله.

(لا تقربوا مال اليتيم): أسلوب إنشائي / نهي غرضه: الوجوب والإلزام والتحذير والتنفير من مجرد الاقتراب فقط فما بالنا بالاستيلاء عليه.

(لا تقربوا): مضارع يدل على التجدد والاستمرار في الحفاظ على مال اليتيم.

(مال اليتيم): الإضافة للتخصيص، وهي توحي بضعف اليتيم واحتياجه للعطف والرعاية.

(لا تقربوا مال اليتيم): كناية عن ضرورة حفظ هذا المال، وسر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(إلا بالتي هي أحسن): استثناء يخصص أن يكون سبب القرب هو الإحسان والخير، والباء هنا سببية.

(لا تقربوا، إلا بالتي): طباق يبرز المعنى ويقويه بالتضاد

(حتى يبلغ أشده): تفيد بلوغ الغاية أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية؛ ليحمي ماله، ويحسن القيام عليه..

(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط): أسلوب إنشائي / أمر غرضه: النصح والإلزام، والعطف بين الكيل والميزان للعموم والشمول.

(لا نكلف نفساً إلا وسعها): كناية عن الرحمة والعدالة الإلهية، وسر جمالها: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(لا نكلف نفساً إلا وسعها): تعقيب وتذييل للاحتراس والتأكيد، والنفي للتأكيد، ونفساً نكرة للعموم والشمول.

(وإذا قلتم فاعدلوا): أسلوب شرط للترغيب ويدل على عدم مجاملة الأقارب عند الشهادة بالعدل، وإذا تفيد الثبوت والتحقق، وفيها إيجاز بحذف المفعول به للعموم والشمول.

(فاعدلوا): نتيجة لما قبلها، أسلوب إنشائي / أمر للنصح، وحذفت مكملات الجملة للعموم والشمول.

(ولو كان ذا قربى): إطناب بالاعتراض للاحتراس؛ لبيان وجوب العدالة مع الجميع للحفاظ على أمن المجتمع وسلامته.

(وبعهد الله): إضافة (عهد) إلى لفظ الجلالة (الله) تشريف وتعظيم لهذا العهد.

(وبعهد الله أوفوا): أسلوب قصر بتقديم شبه الجملة على الفعل للاهتمام به والتنبيه عليه ولبيان للأهمية الشديدة للوفاء بعهد الله، والأمر هنا للحث والنصح.

(ذلكم وصاكم به): التعبير بـ(وصاكم) تعبير دقيق؛ لأنه يوحي بضرورة ووجوب تنفيذ ما سبق من أوامر ونواهٍ حتى تستقيم الحياة.

التعليق العام على النص:

من الخصائص الجمالية للأسلوب القرآني:

1 - جمال اللفظ، وعمق المعنى.

2 - دقة الصياغة، وروعة التعبير على اختلاف الموضوعات.

3 - صياغة المعاني فهي صالحة لمخاطبة الناس في كل زمان ومكان.

4 - اتساق المفردات مع المعنى وسعة الدلالة.

4 - الجملة فيها تلازم واتساق تام بين مفرداتها.

5 - التعبيرات غزيرة المعاني.

6 - تصوير المعاني المجردة في صورة حسية ملموسة.

هل تعلم:

النهي عن القرب من الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها لأنه يتناول النهي عم مقدماتها والوسائل الموصلة إليها.

الموسيقى نوعان:

أ. موسيقى داخلية: ومصدرها حسن اختيار اللفظ ومناسبته للمعنى وهذا النوع سر من أسرار المعمار القرآني.

ب. موسيقى خارجية: ومصدرها الوزن القافية.