الموضوع الثالث: خصائص التفكير الفلسفي ومهارته
معنى التفكير الفلسفي:
فاعلية عقلية تُمكن صاحبها من اكتساب النظرة الكلية والعميقة للأمور والتمييز بين ما هو زائف وما هو حقيقي وعدم أخذ الأمور على أنها مسلمات، بل يتناولها بالتحليل والنقد ويعطي الإنسان رؤية فكرية واضحة يمكنه من خلالها الحكم على القضايا والمشكلات المختلفة.
للتفكير الفلسفي العديد من الخصائص التي تميزه عن أنماط التفكير الاخرى وأهمها:
أ. الدهشة وإثارة التساؤل:
الدهشة انفعال عقلي وربما هزة وجداني ة وكلاهما يحصل للإنسان يقـف مذهولاً أمام شيء ما غير مألوف أو خارق للعادة والوقوف مذهولاً لا يعني غياب العقل أو ذهابه؛ لأن الدهشة هي في المقام الأول فعل عقلي.
ب. الاستقلال:
لتفكير الفلسفي ليس تفكيراً قائماً على مبدأ التبعية وإنما هو تفكير مستقل بالدرجة الأولى حيث أنه لا يعتمد على سلطان آخر سوى سلطان العقل والمنطق، فالفيلسوف لا يخضع في تفكيره لإجماع الناس.
ج. التأمل:
إن التفكير الفلسفي تفكير تأملي، فالفيلسوف عندما يتأمل في موضوع ما فإنه يكون مستغرقاً في التفكير فيه ولا يفكر في غيره، كما أن الفيلسوف عضواً في مجتمعه يمارس حياته الاجتماعية العادية.
د. الدقة المنطقية:
إن التفكير الفلسفي ذو دقة منطقية، فالأفكار داخل حقل التفلسف هي تصورات واضحة ومتكاملة يعبر عنها بمفاهيم مجردة تنظمها نظريات ذات مقدمات تترتب عليها بالضرورة نتائج يقينية.
مهارات التفكير الفلسفي:
الشخص الذي يفكر تفكيراً فلسفياً يتسم بالعديد من المهارات أهمها:
1. مهارة الشك:
أ. معنى الشك:
الشك كما عرفه الجرجاني، هو: التردد بين النقيضين، أو بين رأيين كلاهما له حجه، والشاك هنا يتوقف عادة عن الحكم على صحة أي النقيضين ويتردد بينهما، وهذا التردد لا يعني أن الشاك جاهل بالموضوع، بل يعني أنه يتخذ موقفاً فلسفياً عقلياً يحاول فيه الفهم الأعمق للموضوع لترجيح الرأي الأصوب.
ب. أنواع الشك:
1. الشك الاعتيادي: فهو الذي يتبادر إلى الذهن نتيجة الجهل بموضوع ما وعدم معرفة جوانبه والعجز عن تحليله ومعرفة الظروف المحيطة به.
2. الشك الفلسفي: الذي يمارسه الإنسان عامداً متعمداً حينما يفكر فى موضوع ما بهدف استبعاد أي آراء أو أي أفكار ناقصة حول الموضوع المفكر فيه.
والشك الفلسفي نوعان هما:
أ. الشك المطلق او المذهبي: فهو الشك لمجرد الشك، والفيلسوف يتخذ منه مذهباً يؤمن به ويبدأ بالشك وينتهي به ويظل شاكاً طيلة حياته.
ب. أما الشك المنهجي: فهو يتخذ منه الإنسان المفكر منهجاً متعمداً للوصول إلى الحقيقة بنفسه بهدف اختيار الرأي الأصوب بين الآراء المتباينة والمتناقضة المطروحة أمام العقل.
2. مهارة النقد:
قد يعنى النقد رفض قبول أي فكرة إلا بعد فحصها والتأكد منها، وعادة ما يكون النقد تالياً للتشكيك في كل ما يلقى علينا من أفكار، فإذا ما تشكك المرء في صحة فكرة قام على الفور بنقدها وبيان أدلة رفضها، وحقيقة النقد أنه بيان لوجود الصواب والخطأ، وبيان قيمة الرأي.
أنواع النقد:
النقد المحكم: فهو ذلك الذي يطبق الأسئلة النقدية على كل الأفكار والمعتقدات.
النقد الضعيف: هو استخدام النقد للدفاع عن معتقدات راهنة نؤمن بها، بغرض التبرير وليس بغرض الاختيار بين البدائل.
3. مهارة الحوار:
تتحدد جوانب مهارة الحوار في التالي:
أ. مفهوم الحوار: الحوار هو الجدل مع الآخرين بشكل إيجابي يستهدف الوصول إلى حقيقة شيء ما، أو حقيقة الموضوع الذي يستهدفه المتحاورون أو المجادلون.
ب. أنواع الحوار:
1. الحوار الإيجابي: هو التحاور بين طرفين بغرض تبادل الآراء وإثبات الرأي الصواب بالحجج والبراهين.
2. الحوار السلبي: يستهدف منه صاحبه تسفيه الرأي الآخر وبيان تهافته بأي وسيلة من الوسائل اللغوية والتلاعب بالألفاظ دون الالتزام بأخلاقيات الجدل وآدابه.
خصائص الحوار الفلسفي:
- وجود طرفين أمام عدم أطراف يقبل كلاهما وجود الآخر ويحترم آراءه ووجهة نظره.
- رغبة كل طرف للتواصل العقلي مع الآخر دون تعصب في الرأي.
- أن يكون كل طرف مؤمناً بأن الحوار هو الإطار الموضوعي الذي تمارس فيه حريتنا من جهة ونستبعد فيه أي رغبات ذاتية.
- يقبل الجميع بالحوار الفلسفي أياً كان موضوعه.
- لا يستند الحوار الفلسفي على التأثير العاطفي أو الانفعالي بل على الدليل العقلي.
آليات الحوار الفلسفي:
- تحديد موضوع الحوار؛ إذ أن كل حوار لابد أن يكون حول موضوع بعينه حسب اختصاص المتحاورين.
- يعد كل طرف من أطراف الحوار أسئلة وعناصر رؤيته للموضوع ويرتبها حسب أهميتها وبقدر ما تخدم رؤيته هو.
- يتبادل أطراف الحوار هذه الأسئلة وإجاباتها كل حسب رؤيته ووجهة نظره.
- ـ يقدم كل طرف حججه العقلية على صحة رؤيته الخاصة للموضوع.
- يحاول الطرفان أو الأطراف تحديد التشابهات بين وجهات نظرهم وبيان أوجه الاختلاف بينها.
- ـ ترجيح أي جانب من الجانبين عبر التناول: هل أوجه التشابه أكثر أم أوجه الاختلاف.
- إذا رجحت كفة التشابه فيمكن للمتحاورين أن يتوافقوا عبر الحد من أوجه الاختلاف بتقريب وجهات النظر بينهم.
- إذا رجحت كفة أوجه الاختلاف فيمكن إما أن يتمسك كل طرف بوجهة نظره ويعلنوا ذلك ببساطة وبدون مشاحنات أو غضب أو يتفقوا على موعد آخر لمواصلة الحـوار حتى يثبت كل طرف صحة رؤيته.
- إذا لم يتفق الطرفان أو الأطراف المتحاورة وظل كل واحد منهما متمسكاً بوجهة نظره في ضوء الحجج المقنعة، فإن عدم الاتفاق هذا لا ينبغي أن يفسد للود قضية؛ لأن الحوار الفلسفي هو الذي قد يكشف عن آراء متعارضة أو حجج متكافئة.
مهارة التسامح الفكري (العقلي):
يدلنا تاريخ الفلسفة على أن التسامح كان دائماً مقوماً أساسياً من مقومات التفلسف بقدر ما كانت الفلسفة هي أهم مقومات التسامح، فالأخذ بمبدأ نسبية الحقيقة والاعتراف بالاختلاف هو التسامح بعينه.
إن التسامح الفكري عكس التعصب، والتعصب للرأي يعد في نظر الفلاسفة لا يليق بالإنسان المفكر، فالإنسان المفكر لابد أن ينظر في كل الآراء والمعتقدات ويوازن بين الحجج التي تؤكد صواب هذا الرأي، دون تحيز.
وهذه المهارة تتضمن أن يتمتع الفرد بخصال عدة أهمها:
1. المرونة الفكرية: وهي القدرة على تغيير وتعديل الأفكار والآراء إذا ثبت عدم صحتها.
2. تقبل النقد: وتعني قدرة الفرد على الاستفادة من تقويم الآخرين لأفكاره وتدعيم جوانب القوة وإصلاح جوانب الضعف.
3. تقبل الرأي الأخر: حتى إذا كان مخالفاً لي ورافضاً رأيي أو معتقداتي.
مهارة التحليل والتركيب:
أ. التحليل: ا يمكن لأي مفكر أن يتأمل إلى مشكلة أو قضية إلا إذا بدأ بتحليلها إلى عناصرها وجزئياتها، فالمشكلة مركب معقد ينبغي بداية تحليله أو تفكيكه إلى الجزئيات أو العناصر المكونة له.
ب. التركيب: يأتي التركب بعد التحليل، فبعد أن يقوم الشخص بعملية التحليل (كما فعل ميكانيكي السيارات) يقوم بعملية التركيب، حيث لابد أن يعيد تركيب الأجزاء التي تم فكها. إن القدرة على التحليل والتركيب إذن مهارتان متلازمتان، فلا تحليل إلا إذا كانت هناك مشكلة مركبة تحتاج للتفكيك والتحليل ولا تركيب إلا لعناصر مفككة تحتاج لإعادة تركيب.
آليات ممارسة التحليل والتركيب في حياتنا العادية:
- وجود مشكلة تحتاج لحل.
- تحليل هذه المشكلة وردها إلى عناصرها المختلفة.
- النظر في كل جزئية أو في كل عنصر بسيط على حدة لمحاولة تحليله.
- النظر إلى كل عنصر من هذه العناصر البسيطة من وجوهه المتعددة حتى تدرك أهميته أو دوره في المشكلة الكبرى.
مهارة التجريد والتعميم:
أ. معنى التجريد والتعميم:
إن التجريد والتعميم من أهم مهارات التفكير الفلسفي حيث يثير الفيلسوف العديد من المشكلات ويقدم لها الحلول بشكل كلي لا يتوقف عند حدود الظواهر الجزئية المفردة.
فأي مشكلة جزئية يعاني منها الإنسان في كل زمان وأي مكان، لا يمكن تجاوزها إلا إذا نظر إليها الفيلسوف نظرة كلية عامة.
ب. الطابع التجريدي والكلي للفلسفة:
إن الفيلسوف حينما يتأمل ظاهرة جزئية مثل تأمله لجمال أي شيء محسوس فهو لا يتوقف عن هذا الجمال الجزئي وإنما يحاول تعميمه ليشمل كل الأشياء ذات الصلة بهذا النوع من الجمال ثم بعد ذلك يعمم ويجرد لينتقل من تأمل الأشياء المادية إلى الأشياء المعنوية وتوصل الفيلسوف إلى أن جمال الأشياء المعنوية كالفضيلة هو بلا شك أكثر أهمية وأدوم عمراً من مجال الأشياء الحسية.
ج: التعميم والتجريد صفة مشتركة للتفكير الفلسفي والعلمي:
القانون العلمي عادة ما يكون وليد هذا التعميم، وهذا التجريد الذي يسعى إليه العالم حينما ينجح في تفسير أي ظاهرة من الظواهر التي يدرسها.
مثال ذلك: دراسة العلماء لظاهرة التمدد والتي عبروا عنها في النهاية بالقانون العلمي: (كل المعادن تتمدد بالحرارة) إذن التعميم والتجريد صفة مشتركة بين الفيلسوف والعالم.
الشخص الذي يفكر تفكيراً فلسفياً يتصف:
- بالروح النقدية.
- السماحة الفكرية.
- تواضعه الفكري.
- عدم تعصبه.
- تأنيه في إصدار الأحكام.
- شجاعته.
- نزاهته الفكرية والعقلية.
- حرصه على البحث والتأمل.
- حواره مع نفسه ومع الآخرين.
- شكه المنهجي وليس المذهبي.