من تجارب الحياة (نص شعري) زهير بن أبي سلمى

زهير بن أبي سلمى ربيعة من رباح المزني، من مضر حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضله على شعراء العرب كافة قال ابن الأعرابي: كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره كان ابوه شاعراً، وخاله شاعراً، واخته سلمى شاعرة وابناه كعب وبجير شاعرين واخته الخنساء شاعرة ولد في بلاد مزينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاج (من ديار نجد) واستمر ابناؤه فيه بعد الإسلام.

قيل: كان ينظم القصيدة وينقحها ويهذبها في سنة او في الحول وقد كان يسمى شاعر الحوليات.

ويقال: إن أبياته في أخرها تشبه كلام الأنبياء.

أشهر شعره معلقته تلك التي بين أيدينا بعض من ابياتها والتي مطلعها:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ........ بحومانه الدراج فالمتثلم

مناسبة النص:

كان زهير بن أبي سلمى المزني نازلاً في بني مرة من ذبيان وقد نشبت حرب شديدة بين عبس وذبيان عرفت بحرب داحس والغبراء اصطلى زهير بنارها هو وغيره من بني ذبيان وقد استمرت تلك الحرب عشرات من السنين وقد مالت عبس في نهاية تلك الحرب الى السلم ووافق ذلك رغبة من بني مرة الذبيانيين فسعى رجلان فاضلان في الصلح بين عبس وذبيان والرجلان هما هرم بن سنان والحارث بن عوف فجمعا الديات التي لغت ثلاثة آلاف بعير فأعجب زهير بهذين الرجلين ومدحهما بقصيدة طويلة هي معلقته وقد ختمها بهذه الحكم التي أوردناها والتي يحث معظمها على الصلح وهو يمدح الرجلين.

الفكرة الأولى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ....... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ......... ولكنني عم علم ما في غد عمي

الكلمة معناها الكلمة معناها الكلمة معناها
سئمت مللت× اشتقت الحول العام الحياة الدينا
التكاليف المشاق والشدائد الغد المستقبل يسأم يمل
لا أبا لك يراد بها التنبيه والإعلام عمي جاهل

شرح الأبيات:

1. يظهر الشاعر ملله من الحياة بسبب مشقاتها ومشكلاتها، فقد عاش ثمانين عاماً وكان هذا العمر كفيلاً أن يجعله يسأم ويمل.

2. وقد أخذ علماً كثيراً فهو يعلم عن أحداث الحاضر والماضي لكنه جاهل عن أحداث المستقبل.

من اللمحات الفنية والجمالية في البيتين:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ....... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

سئمت تكاليف الحياة: كناية عن شدة الضيق والملل وسر الجمال الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل ويوحي باليأس والإحساس بالنهاية.

تكاليف الحياة: استعارة مكنية شبه الحياة بإنسان عليه تكاليف سر جمالها التشخيص.

ومن يعش ثمانين حولاً يسأم: تعليل لما قبلها أسلوب شرط للتوكيد يسأم: نتيجة لما قبلها. حكمة تبرز خبرة الشاعر.

يعش - يسأم: إطناب بالتكرار لتأكيد المعنى.

لا أبا لك: أسلوب خبري لفظاً إنشائي معنى غرضه الدعاء بفقد الأب وهي إطناب بالجملة الاعتراضية: للتنبيه.

أسلوب البيت كله: خبري للتقرير والتوكيد ونلاحظ ان البيت بدأ بـ سئمت وينتهي بـ يسأم ليؤكد شدة ملل الشاعر ومعاناته من الحياة وطولها وان حياته لا تطاق.

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ......... ولكنني عم علم ما في غد عمي

وأعلم علم اليوم والأمس قبله: أسلوب خبري للتقرير والتوكيد (اليوم - الأمس) محسن بديعي طباق يوضح المعنى ويؤكده.

(أعلم - علم): جناس ناقص يحرك الذهن ويجذب الانتباه ويعطي جرساً موسيقياً وايحاز بحذف المضاف والتقدير "علم الأمس".

علم اليوم: كناية عن الحاضر.

علم الامس: كناية عن الماضي والأمس مجاز مرسل عن المستقبل علاقته جزئية.

جاء ظرف الزمان: قبله بياناً لضرورة ان يعلم الانسان تجاري من سبقوه ليستفيد من هذه التجارب في بناء مستقبله البناء الصحيح.

ولكنني عن علم ما في غد عمي: كناية عن جهل وعجز الإنسان عن معرفة الغيب. لكنني: حرف استدراك لمنع الوقوع في الفهم الخاطئ.

عن علم ما في غد عم: تقديم الجار والمجرور يفيد الاهتمام والتخصيص وغد: مجاز مرسل عن المستقبل علاقته الجزئية.

بين شطري البيت مقابلة توضخ المعنى.

أعلم - عم: بدأ البيت بـ أعلم وختامه بـ عم يوحي بأن حياته كلها منحصرة بين علم الماضي والحاضر والعجز عن معرفة المستقبل مما يبرز شدة معاناته طوال عمره.

الفكرة الثانية:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه ........ يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله .......... على قومه يستغن عنه ويذمم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ....... ولو رام أسباب السماء بسلم

ومن يجعل المعروف في غير .......... أهله يكن حمده ذماً عليه ويندم

معاني المفردات:

الكلمة معناها الكلمة معناها الكلمة معناها
يجعل يضع يك أصلها يكن أسباب وسائل
المعروف الإحسان والكرم × المنكر ذا صاحب المنايا الموت منية
عرضه شرفه فضل خير رام صعد
يفره يحميه ويصونه يستغني يتخلى حمده شكره × ذمه
يتق يتجنب ويتحاشى يذمم يعاب ويهان يندم يتحسر ويتأسف
الشتم السب هاب خاف وخشي

شرح الأبيات:

3. يقول الشاعر: ومن يصنع المعروف ليمنع ذم الرجال عن عرضه فيجعل إحسانه يحمي عرضه فهو يحافظ على مكارمه ومن لا يتجنب شتم الناس إياه يشتم: يقصد ان من فعل معروفه صان عرضه ومن بخل بمعروفه يعرض عرضه للذم والشتم.

4. من كان ذا فضل ومال فبخل به يستغن عنه الناس ويذموه.

5. من خاف وهاب أسباب الموت نالته ولم يفده خوفه وهيبته إياها ولو أراد الصعود الى السماء فراراً منها.

6. ومن يصنع الخير والمعروف لمن لا يستحق الإحسان إليه والامتنان عليه ذمه الذي أحسن إليه ولم يحمده وندم المحسن الذي وضع إحسانه في غير موضعه.

من اللمحات الفنية والجمالية في الأبيات:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه ........ يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره: استعارة مكنية حيث شبه المعروف بحصن يحمي العرض ويصونه او استعارة مكنية شبع العرض بكنز نحميه وحذف المشبه به وسر جمالها التجسيم والجملة نتيجة لما قبلها وتوحي بأثر فعل المعروف في حماية عرض الإنسان من المعتدين واسلوب شرط للتقرير والتوكيد وكلمة المعروف: معرفة للشمول والعموم.

ومن لا يتق الشتم يشتم: اسلوب شرط للتقرير والتوكيد استعارة مكنية يصور الشتم بإنسان يتقيه الناس.

الشتم - يشتم: جناس ناقص واطناب بالتكرار.

وبناء الفعل يشتم: للمجهول ايجاز بحذف الفاعل للشمول والعموم والفعل: نتيجة لما قبله.

بين شطري البيت: مقابلة توضح المعنى.

البيت كله: حكمة تبرز خلاصة تجارب الشاعر وعمقها.

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله .......... على قومه يستغن عنه ويذمم

البيت كله: اسلوب شرط للتوكيد.

يك: ايجاز بحذف النون واصلها يكن الايجاز للتخفيف.

يبخل بفضله: كناية عن سوء الطبع والانانية واستعارة مكنية بشبه الفضل بشيء مادي وسر جمالها التجسيم وتوحي بأهمية العطاء.

الفاء في فيبخل: تفيد الترتيب والتعقيب والسرعة.

يستغن عنه ويذمم: كناية عم تفاهة البخيل وحقارته وعدم أهميته في المجتمع وبناء الفعلين للمجهول ايجاز بحذف الفاعل للشمول والجملة نتيجة لما قبلها وصيغة المضارع للتجدد والاستمرار.

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ....... ولو رام أسباب السماء بسلم

أسلوب شرط للتقرير والتوكيد ولبيان ان الجزاء من جنس العمل.

ومن هاب أسباب المنايا: استعارة مكنية يصور أسباب المنية بوحش يهابه الإنسان ويوحي بحتمية الموت وعدم إمكانية تجنبه.

ينلنه: استعارة مكنية يشبه الموت بشيء مادي يحصل عليه الجبان والجملة نتيجة لما قبلها والمضارع للتجدد والاستمرار.

لو رام اسباب السماء بسلم: كناية عن استحالة الحدوث استعارة مكنية يصور السماء ببيت مرتفع نصعد اليه بسلم.

سلم: استعارة تصريحية يصور الوسائل بالسلم.

البيت يتضمن معنى الآية الكريمة: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة).

ومن يجعل المعروف في غير .......... أهله يكن حمده ذماً عليه ويندم

البيت كله: أسلوب شرط لبيان أن الجزاء من جنس العمل.

من يجعل المعروف: استعارة مكنية يحسم المعروف كأنه شيء مادي يوضع.

المعروف: معرفة للتعظيم والشمول والعموم.

في غير أهله: كناية عن سوء التصرف.

يكن حمده ذماً عليه ويندم: نتيجة لما قبلها تشبيه بليغ يشبه الحمد مع من لا يستحق والندم كناية عن الجحود وسوء العاقبة وسر جمالها الإتيان بالمعنى مصحوباً بدليل عليه.

حمداً × ذماً: طباق يوضح المعنى ويقويه.

ذماً: نكرة للتحقير.

الفكرة الثالثة:

ومن يغترب يحسب عدواً صديقه .... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ..... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ...... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

معاني المفردات:

الكلمة معناها الكلمة معناها الكلمة معناها
يغترب يفارق × يلازم ويقيم خليقة مكرمة وصفة وخلق الفتى الشاب
عدوا اعداء وأعادي خالها ظنها فؤاده قلبه
يكرم يصون ويحفظ تعلم تظهر وتعرف يبق يدم ويثبت
أمرئ انسان لسان المراد كلامه صورة شكل

شرح الأبيات:

يقدم الشاعر حكمة جديدة وهي: من يفارق أهله ووطنه يظن في غربته العدو صديقاً له كما ان الذي لا يحسن الى نفسه بالخير لا يكرمه أحد قط.

يؤكد الشاعر أن لكل إنسان خلقه وطبيعته التي فطر عليها فمهما حاول أن يخفى على الناس خلقاً فيه فإن الأيام كفيلة بالكشف عنه وعما حاول إخفاءه فقديماً قالوا الطبع يغلب التطبع.

إن الإنسان ما هو إلا صورة وإنما يكشفه ويظهر حقيقته امران: قلبه ولسانه فإن فقدهما لم يكن سوى جسد من لحم ودم.

من اللمحات الفنية والجمالية في الأبيات:

ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ..... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم

البيت كله: اسلوب شرط لبيان أن الجزاء من جنس العمل.

الأفعال المضارعة: للتجدد والاستمرار.

يحسب: توحي بالشك والخطأ في الفهم نتيجة لما قبلها.

يحسب عدواً صديقه: كناية عن سوء الفهم وقلة الخبرة في الحياة.

عدواً صديقه: تشبيه بليغ يشبه العدو بالصديق.

عدواً: نكرة للتهويل والتحقير.

لا يكرم نفسه: استعارة مكنية يصور النفس بضيف يكرم كناية عن عدم التقدير والاجلال للنفس.

لا يكرم: نتيجة لما قبلها وهي نتيجة سلبية لعدم احترام الذات مما يبرز بشاعة مسلك الإنسان الذي لا يحترم نفسه.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ....... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

البيت كله: أسلوب شرط لبيان أن الجزاء من جنس العمل.

امرئ - خليقة: نكرة للشمول والعموم.

إن خالها تخفى على الناس: جملة اعتراضية للشك استعارة مكنية يصور الخليقة بشيء مادي يخفى.

خالها: توحي بخطأ الظن.

تخفى - تعلم: طباق يوضح المعنى.

تعلم: نتيجة لما قبلها.

لسن الفتى نصف ونصف فؤاده ...... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

لسان الفتى نصف: كناية عن أهمية اللغة وضرورة مراعاتها والتمكن فيها.

لسان: مجاز مرسل علاقته آلية وسر جمالها الدقة في اختيار العلاقة في إيجاز وتجسيم.

نصف فؤاده: كناية عن اهمية العاطفة والمشاعر للإنسان وأسلوب قصر بتقديم الخبر على المبتدأ للتخصيص والتوكيد.

صورة اللحم والدم: تشبيه يجسم المعنى ويوضحه.

التعليق العام على النص:

غرض النص: الحكمة.

التجربة: عامة حيث إنه يتناول حكماً انسانية تخص البشر جميعاً.

العصر الأدبي: العصر الجاهلي.

العاطفة: سيطرت على الشاعر مشاعر المعاناة من طول الحياة كما تسود الأبيات مشاعر الاعتزاز بالمثل العليا والمبادئ الخلقية.

من الخصائص الأسلوبية التي تتوافر في النص:

  • حسن الإيجاز واستعمال اللفظ القليل ذي المعنى الكثير.
  • البعد عن الغموض والتعقيد اللفظي والمعنوي.
  • إجادة المدح الصادق لا وتجنب الكذب.
  • الإكثار من الحكم بما لم يفقه شاعر جاهلي فيها.
  • قلة الصور البلاغية.
  • كثرة الطباق بين الكلمات.

صاحب الحوليات: زهير بن أبي سلمى يمثل طبقة من الشعراء يسمون عبيد الشعر لأنهم لا يحبون الارتجال بل ينقحون اشعارهم قبل عرضها وسميت قصائد زهير بـ الحوليات لأنه كان يكتب القصيدة في أربعة أشهر ويهذبها ويراجعها في أربعة ثم يعرضها على النقاد في أربعة أشهر.

اعتمد لشاعر على أساليب الشرط لأنها تعتمد على ربط النتائج بمسبباتها وذلك للإقناع والتوضيح.

أسلوب الأبيات: هو الأسلوب الخبري الذي يناسب غرض الحكمة الذي يؤكد الحقائق الكونية وينقل التجارب الإنسانية وجاء ذلك في أساليب الشرط التي تعتمد على السبب والنتيجة.

مصادر الموسيقى في الأبيات تمثلت في الآتي:

  • وحدة الوزن وهو البحر الطويل.
  • القافية الموحدة وهيك الميم وقد جاءت الموسيقى معبرة عن العاطفة الهادئة للشاعر.

أسباب اجادة الحكمة لدى الشاعر زهير بن أبي سلمة:

  • نشأته وتربيته على يد الشاعر بشامة بن الغدير حياته الطويلة المجربة.
  • طبيعته المعروفة بالجد والوقار.

سمات الحكمة لدى الشاعر زهير بن أبي سلمى:

  • حكمته صادقة صافية.
  • حكمته انعكاس لنفسه الخيرة.
  • نظرته الصائبة.
  • ترسم مثله العليا ومبادئه الخلقية الراقية.

إن زهيراً صاحب أمدح بيت وأصدق بيت وأبين بيت.

فالمدح قوله: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي انت سائله

والأصدق قوله: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ..... وإن خالها تخفي على الناس تعلم

وأما الأبين فقوله يرسم حدود الحق: فإن الحق مقطعه ثلاث ..... يمين او نفار او جلاء.