آداب صناعة الكتاب "نثر" عبد الحميد بن يحيى الكاتب

الكاتب:

هو عبد الحميد بن يحيى مولى من أهل الشام أي أهل البلاد الأصليين الذين دخلوا في الإسلام فهو ليس عربياً وكان المثل يضرب به ببلاغة إنشائه في الرسائل، فيقال: (بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) بدأ معلماً للصبيان وترقى حتى صار من كتاب مروان بن محمد أخر خلفاء بني امية ومات مقتولاً معه سنة 132هـ وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات، وله رسائل بليغة منها (رسالته الى الكتاب في عصره ومنها الجزء المقرر في هذا الدرس ورسالته الى أهله وهو منهزم).

الفقرة الأولى:

أرسل عبد الحميد الكاتب رسالة جامعة الى الكتاب يقول:

فِظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، فليس أحد من أهل الصناعاتِ كلها أحوج إلى اجتماع خلالِ الخيرِ المحمودةِ وخصالِ الفضلِ المذكورة المعدودة- منكم أيها الكتاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتِكم.

شرح الفقرة:

في هذه الرسالة يبين عبد الحميد الكاتب مكانة الكتاب وما يجب أن يتحلوا به من خلال حميدة وخصال طيبة تجلب لهم الرفعة والفضل فهو يتوجه الى الله تعالى بالدعاء أن يحفظ الكتاب جميعاً لأنهم يجب أن يتصفوا بالأخلاق الحميدة والصفات الطيبة.

اللمحات الفنية والجمالية:

(حفظكم الله): أسلوب خبري لفظاً إنشائي معنى غرضه: الدعاء.

(يا أهل صناعة الكتابة): أسلوب إنشائي / نداء غرضه: التعظيم والتخصيص والتنبيه

(صناعة الكتابة): تشبيه بليغ حيث شبه الكتابة بالصناعة، وسر جمالها: التوضيح، وتوحي - بما أنها صناعة - بضرورة بذل الجهد للارتقاء بها وتجويدها.

(فليْسَ أحدٌ من أهْلِ الصناعاتِ كُلِّهَا أحْوَجَ إلى اجتماع خِلالِ الخَيرِ المَحْمُودَةِ وخِصَالِ الفضلِ المذكورةِ المعدودةِ): كناية عن لزوم الصفات الطيبة في الكتاب، وسر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(أحد): نكرة للعموم والشمول.

(أهل الصناعات كلها): توكيد أداته التوكيد المعنوي (كلها) ويفيد العموم والشمول.

(أحوج): اسم تفضيل يفيد شدة احتياج أي كاتب إلى خصال الخير.

(اجتماع خِلالِ الخَيرِ المَحْمُودَةِ): استعارة مكنية حيث شبه الخلال بأشخاص تجتمع، وسر جمالها: التشخيص.

(اجتماع خِلالِ الخَيرِ المَحْمُودَةِ وخِصَالِ الفضلِ المذكورةِ المعدودةِ): استعارة مكنية حيث شبه الخلال والخصال بأشخاص تجتمع، وسر جمالها: التشخيص، وتوحي بأهمية وجود الصفات الحميدة عند أي كاتب.

(هذا الكتاب): الإشارة إلى الكتاب توحي بأهميته.

(خلال - خصال): محسن بديعي / جناس ناقص يعطي جرساً موسيقياً يثير النفس وتطرب إليه الأذن.

(خلال - خصال): إطناب بالترادف لتأكيد المعنى.

(المَحْمُودَةِ - المعدودةِ): محسن بديعي / جناس ناقص يعطي جرساً موسيقياً يثير النفس وتطرب إليه الأذن.

(أيها الكتاب): أسلوب إنشائي / نداء غرضه: التنبيه والتعظيم، وحذفت أداة النداء للدلالة على القرب والحب وشدة الاهتمام بهم.

(إذا كنتم على ما يأتي): إذا تفيد الثبوت والتحقق.

(إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتِكم): إجمال (ما يأتي في هذا الكتاب) بعده (بقية النص) تفصيل؛ لإثارة الذهن وتشويقه.

الفقرة الثانية:

فإن الكاتبَ يحتاجُ من نفسه ويحتاجُ منه صاحِبُهُ الذي يثق به في مُهمات أمُورِه أن يكونَ حليماً في موضع الحِلم، فهيماً في موضع الحُكم، مقداماً في موضع الإقدامِ ومحجماً في موضع الإحجام، مؤثراً العفاف والعدل والإنصافِ كتوماً للأسرارِ، وفيّا عند الشدائدِ، عالماً بما يأتي من النوازل، يضَعُ الأمورَ مواضعها والطوارق في أماكنها.

الشرح:

ومن الصفات التي تجلب للكتاب الرفعة، حسن التصرف والحلم والشجاعة والحرص على العدل والإنصاف، وكتم الأسرار والوفاء والفطنة وسعة العلم وكثرة الاطلاع وامتلاك الخبرة والعلم بما يأتي من المصائب والشدائد وتقدير الأمور تقديراً صحيحاً ووضع الأمور في نصابها الصحيح.

اللمحات الفنية والجمالية:

(الكاتبَ يحتاجُ من نفسه): استعارة مكنية حيث شبه النفس بإنسان يُحتاج إليه، وسر جمالها: التشخيص.

(يحتاج): فعل مضارع يفيد التجدد والاستمرار، ولا تنسَ أن الأفعال المضارعة دائماً تفيد التجدد والاستمرار، واستحضار الصورة في ذهن القارئ.

(يحتاجُ منه صاحِبُهُ): أسلوب قصر عن طريق تقديم الجار والمجرور (منه) على الفاعل (صاحِبُهُ) يفيد التوكيد والتخصيص.

(أن يكونَ حليماً في موضع الحِلم): كناية عن الحكمة والخبرة والرزانة، وسر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(حليماً): نكرة للتعظيم.

(حليماً في موضع الحلم - فهيماً في موضع الحكم): بين العبارتين مقابلة تبرز المعنى وتوضحه، وازدواج يعطي جرساً موسيقياً.

(الحلم، الحكم): محسن بديعي / جناس ناقص يعطي جرساً موسيقياً يثير النفس وتطرب إليه الأذن.

(حكيماً، فهيماً، كتوماً، وفياً): صيغ مبالغة تفيد كثرة (الحكم - الفهم - الكتمان - الوفاء) وثبوت هذه الصفات فيه.

(مقداماً في موضع الإقدامِ - محجماً في موضع الإحجام) : بين العبارتين مقابلة تبرز المعنى وتوضحه، وسجع يعطي جرساً موسيقياً.

(مقداماً في موضع الإقدامِ ومحجماً في موضع الإحجام) : كناية عن التمكن والخبرة والجرأة والجسارة، وسر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(مقداماً - محجماً): محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.

(الإقدام - الإحجام): محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.

(العفاف والعدل): عطف (العدل) على (العفاف) لتنويع الصفات التي يجب أن يتصف بها أي كاتب.

(العدل والإنصاف): إطناب بالترادف لتأكيد المعنى.

الفقرة الثالثة:

قد نظرَ في كل فنٍ من فنون العلم فأحكمَه؛ وإن لم يحكمْهُ أخذ منه بمقدار ما يُكتفي به، يعرفُ بغريزةِ عقلِه وحسنِ أدبِه وفضلِ تجرِبتِه ما يردُ عليه قبل ورودِه، وعاقبةَ ما يصدرُ عنه قبلَ صدورِه، فيُعِدّ لِكلِّ أمرٍ عُدَّتَه وعتاده، ويُهيئُ لكلِّ وجه هيئته وعادته.

الشرح:

ويستكمل عبد الحميد الكاتب في هذه الفقرة ما يجب أن يتحلى به الكتاب من الصفات يقول: ينبغي على كل كاتب أن يعرف كل فن من الفنون وكل علم من العلوم فيتقنه فإن لم يتقنه فعليه أن يأخذ منه بقدر ما يكفيه في مجاله، كما يبتغي أن يملك بصيرة نافذة ويستطلع ويتوقع بعقله، وخبرته الأمور قبل أن ترد إليه وتأتيه، ويقدر ما يخرج منه ويعرف نتيجته وأثره قبل أن يخرجه وأن يعرف يقدر للأمور قدرها ويعد ويجهز نفسه دائماً لمواجهتها.

اللمحات الفنية والجمالية:

(نظرَ في كل فنٍ من فنون العلم): استعارة مكنية حيث شبه الفنون بمرايا ينظر فيها الكاتب، وسر جمالها: التجسيم.

(أحكمه - لم يحكمه): محسن بديعي / طباق بالسلب يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.

(أخذ منه بمقدار ما يُكتفي به): استعارة مكنية حيث شبه العلم بشيء له حجم ومقدار يؤخذ منه، وسر جمالها: التجسيم.

(غريزةِ عقلِه وحسنِ أدبِه وفضلِ تجرِبتِه): محسن بديعي / ازدواج يعطي جرساً موسيقياً.

(ما يردُ عليه قبل ورودِه، وعاقبةَ ما يصدرُ عنه قبلَ صدورِه): محسن بديعي / مقابلة توضح المعنى وتبرزه بالتضاد.

(فيُعِدّ لِكلِّ أمرٍ عُدَّتَه وعتاده، ويُهيئُ لكلِّ وجه هيئته وعادته): كناية عن شدة الاهتمام بالعمل، وسر جمال الكناية: الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

(فيُعِدّ، ويُهيئُ): فعل مضارع يفيد التجدد والاستمرار، واستحضار الصورة في ذهن القارئ.

(عدته، عتاده، عادته): محسن بديعي / جناس ناقص يعطي جرساً موسيقياً يثير النفس وتطرب إليه الأذن.

(عدته، عتاده): إطناب بالترادف لتأكيد المعنى.

الفقرة الرابعة:

وارووا الأشعارَ واعْرِفوا غريبَها ومَعانيَها، وأيَّامَ العربِ والعَجَمِ وأحاديثَها وسِيَرَها؛ فإنَّ ذلك مُعِينٌ لكم على ما تَسْمُو إليه هِمَمُكُم، ونزِّهوا - مَعْشرَ الكتاب - صِنَاعَتَكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السِّعاية والنميمة وما فيه أهلُ الجهالات، فإن العيب إليكم - معشر الكتاب - أسرع منه إلى القُرّاء، وهو لكم أفسد منه لهم. ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشرح:

ثم ينصحهم برواية الأشعار ومعرفة الغريب منها، ومعرفة معارك وحروب العرب وسيرهم؛ لأن ذلك يزيد من هممهم، ثم يدعوهم إلى أن يبتعدوا بأنفسهم عن الوشاية والنميمة التي يقع فيها أهل الجهل؛ لأن هذه الأمور مفسدة للكتاب ومنقصة لقدرهم.

اللمحات الفنية والجمالية:

(ارووا الأشعار، اعرفوا غريبها، نزهوا صناعتكم، اربئوا بأنفسكم): كلها أساليب إنشائية / أمر غرضها: النصح والإرشاد لما يجب أن يفعله الكتاب حتى يتمكنوا من مهنتهم.

(العرب - العجم): محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.

(الكتاب - القراء): محسن بديعي / طباق يبرز المعنى ويوضحه بالتضاد.

(فإنَّ ذلك مُعِينٌ لكم): تعليل لما قبله، وأسلوب مؤكد بـ(إن).

(تَسْمُو إليه هِمَمُكُم): استعارة مكنية حيث شبه الهمم بأشخاص تطمح إلى العلا، وسر جمالها: التشخيص.

(تَسْمُو إليه هِمَمُكُم): أسلوب قصر عن طريق تقديم الجار والمجرور (إليه) على الفاعل (هِمَمُكُم) يفيد التوكيد والتخصيص.

(العيب إليكم أسرع): استعارة مكنية حيث شبه العيب بإنسان سريع الوصول، وسر جمالها: التشخيص.

(معشر الكتاب): أسلوب إنشائي / نداء غرضه: التعظيم والتخصيص والتنبيه، وحذفت أداة النداء للدلالة على القرب والحب وشدة الاهتمام بهم، وكرر الكاتب النداء للدلالة على اعتزازه بهم وتقديره لمهنة الكتاب.

التعليق العام على النص:

  • ينتمي النص الى العصر الأموي وهو من فنون النثر وينتمي الى فن (الكتابة الديوانية) التي وضحت معالمها في العصر الأموي ويطلق عليها الرسائل الديوانية.
  • ظهر هذا للون من الكتابة حيث ثقلت أعباء الدولة على الخلفاء ورأوا أن يستدوا الكتابة في تعريف شئون الدولة الى طبقة من الكتاب المحترفين الذين عرفوا أصول الكتابة وتناقلهم بعضهم عن بعض.
  • ظهرت الكتابة في صدر الإسلام حين دون عمر بن الخطاب الدواوين حين أحس بحاجته تسجيل الناس وأعطياتهم وظلت الكتابة تنمو وتتقدم حتى ارتقعت وارتفع شأنها كثيراً في العصر الأموي نتيجة اتساع شئون الدولة وتعدد الدواوين وحاجة الخلفاء الى مكاتبة الولاة والقادة.
  • وتميزت حينذاك بالإيجاز والقصد الى الفكرة من أقرب طريق، والتعبير عنها من غير تأنق او تكلف كما تلمس سهولة اللفظ ووضوح المعنى والبعد عن الغريب وعن المبالغة في التفخيم والاقتباس من معاني وعباراته وصوره.
  • وظهر الطابع الإسلامي واضحاً في حرص الكتاب على افتتاح رسائلهم بذكر اسم الله وحمده والصلاة والسلام على نبيه وختامها بتحية الإسلام.

هل تعلم:

  1. أن هناك نوعاً أخر من الرسائل يطلق عليه الرسائل الإخوانية.
  2. ديوان الخراج وديوان الجند من الدواوين التي أنشأها عمر بن الخطاب.
  3. أن الكتاب أدخلوا في كتاباتهم ما استحسنوه من تشبيهات الشعر والأمثال والحكم.
  4. أن الدولة الأموية عززت اللغة العربية وآدابها فكانت بلاغة القول من جملة ذلك.

سمات أسلوب الكاتب:

  1. ألفاظه منتخبة وليس فيها توغل ولا غريب او وحشي وإنما فيها العذوبة والحلاوة.
  2. معانيها غزيرة مرتبة، وليس فيها غموض ولا خفاء وإنما فيها الوضوح وانكشاف الدلالة.
  3. أول من عنى عناية فائقة بترتيب الأفكار وتسلسلها في دقة ونظام فهو يقسم الرسالة أقساماً متناسبة ويحلل كل قسم منها تحليلاً منطقياً دقيقاً مراعياً الترابط الوثيق بين أجزاء الرسالة وفقراتها المختلفة.
  4. يميل الكاتب الى الإطناب عن طريق الترادف والتكرار (العدل والإنصاف) (خلال الخير المحمودة - خصال الفضل).
  5. ولاحظ أن الكاتب قليل الصور في الرسالة مع براعة عرض المعاني وتقريبها والإقناع بها.
  6. كما أن له ذوقه الخاص في انتقاء الألفاظ ورعاية الإيقاع الموسيقي الذي يعتمد على التناسق اللفظي في الجمل والفقرات، مع اللايتان بالسجع غير المتكلف في مواضيعه.

ملامح شخصية الكاتب:

  • حكيم.
  • شجاع.
  • عاقل.
  • يحب مهنته.
  • واسع الثقافة.
  • عفيف النفس.
  • يعالج فنه الأدبي في أناة وتؤدة شأنه شأن الأديب الذي يبذل جهداً كبيراً ليخرج للناس صورة منتقاه من الآدب الرائع.